فسحة للرأي

لماذا لا نفهم أمريكا؟

نضال العيسة |
لماذا لا نفهم أمريكا؟

 كتب - نضال العيسة: 

في لحظة معينة يمكن أن نكون كلنا أقلية: ماذا يمكن أن نتعلم من وعن العرق في أمريكا

اذا كنت تتبع/ين الأخبار في الأسبوع الأخير، كان من المستحيل أن تتفادى/تتفادي الأخبار المتواترة من الولايات المتحدة. المواطن الأمريكي من أصل أفريقي "جورج فلويد" لقي حتفه نتيجة استخدام الشرطة للقوة المفرطة خلال عملية إعتقاله، حيث تداولت مواقع التواصل الإجتماعي ووكالات الانباء العالمية منها والمحلية مقطع فيديو يظهر شرطيا ابيض جاثماً على رقبة "فلويد" قبل أن يفارق هذا الأخيرالحياة. كانت ردة فعل الشارع الأمريكي، و الأسود منه خاصة، حادة وغاضبة حيث خرج عشرات الألاف الى الشوارع للمطالبة بالعدالة من أجل فلويد والعديدين أمثاله من الأقليات (السكان غير البيض أو من الأصول غير الأوروبية) اللذين يتعرضون للظلم من الشرطة الأمريكية يوميا. أتسمت هذه التظاهرات في بعض الحالات بالعنف الذي أدى الى اصابات وخسائر مادية لا يمكن حصرها آنيا. إلا أن أغلب المظاهرات اتسمت بالغضب والسلمية التي أصبحت على مر الأعوام من صفات هذه المظاهرات التي تطالب بالعدالة والمساواة. الغريب في كثير من هذه الحالات عند مواكبتها من وجهة نظر عربية وفلسطينية خاصة ان الكثير من التغطية تتسم بعدم فهم لعمق العنصرية في النظام والمجتمع الأمريكي عامة والابيض منه على وجه الخصوص. كما وتتسم التغطية بغياب الربط بين ما يحدث في المجتمعات العالمية والانطباعات والأثار التي يمكن أن يتركها علينا وما يمكن أن نتعلمه من هذه التجارب.

في البداية يجب التنويه على أن الولايات المتحدة الأمريكية، كما هو الحال في اغلبية دول العالم الجديد، بنيت على ظهور العبيد وعن طريق إزاحة السكان الأصليين بما يمكن وصفه بالإبادة الجماعية. توسعت المستعمرات الأولى على حساب السكان الأصليين اللذين في العديد من الحالات لم يملكوا نفس الفهم الأوروبي لمفهوم الملكية الشخصية للأرض، ثم تطورت هذه التوسعة لمواجهات مفتوحة مع السكان الأصليين اللذين هزموا أمام عتاد المستعمرين الأوروبيين والأمراض التي جلبوها الى العالم الجديد. وفي سبيل التطور الإقتصادي والتوسع الجغرافي "استورد" المستعمر الأوروبي أيد عاملة من افريقيا مستغلا ومطورا شبكات تجارة الرقيق الموجودة، و التي ساهم العرب في خلقها، ومستحدثا أخرى، وكانت النتيجة ان تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي حولت ما يقارب 12.5 مليون أنسان إلى عبيد ونقلتهم من أفريقيا الى الأمريكيتين بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. عشية الحرب الأهلية الأمريكية في بداية ستينات القرن التاسع عشر كان ما نسبته 8% من العائلات الأمريكية تملك عبيدا وترتفع النسبة إلى 25% من العائلات التي تعيش في الولايات الجنوبية (من تعداد السكان 1860).

كانت الظروف الحياتية الوحشية التي عاشها أغلبية العبيد في الولايات المتحدة تنعكس في القوانين والتشريعات والأعراف الإجتماعية الأمريكية، حيث عرف الدستور العبيد في التعداد السكاني كثلاث أخماس شخص. ولم ينته هذا التفكير العنصري في القوانين بهزيمة الولايات الجنوبية في الحرب الأهلية الأمريكية التي نشبت لأسباب عديدة كان أهمها العبودية، بل أن قوانين "جيم كرو" التي شرعت التفرقة العنصرية في كل مرافق الحياة في الولايات الجنوبية حتى أواسط ستينات القرن العشرين لم تزل حتى سن قانون الحقوق المدنية عام 1964 وقانون الحق في التصويت عام 1965 بعد نضال المواطنين السود من أجل استكمال حقوقهم وانعتاقهم بقيادة مارتن لوثر كنغ جونير، ملكوم إكس، محمد علي، وأخرين كثر.

ولكنه من السذاجة الإعتقاد بأن هذا النوع من الإضطهاد والتمييز المستدام والمقونن يمكن القضاء عليه بسن التشريعات أو حتى بتطبيقها، والدليل على ذلك أن غالبية قيادات الدولة والمجتمع من البيض، لا سيما الرجال منهم. فعلى سبيل المثال للحصر براك أوباما كان أول رئيس غير أبيض للولايات المتحدة، وفي تاريخ محكمة العدل العليا الأمريكية خدم قاضيان أسودان، أخرهما ما زال على رأس عمله، وفي تاريخ الولايات المتحدة خدم أربعة رجال سود في منصب حكام الولايات أولهم لمدة شهر بشكل إستثنائي في سبعينيات القرن التاسع عشر ولم يخلفه أخر حتى أنهيار جدار برلين بعد 120 عام، حتى بعد ميلادي. أما على المستوى الإجتماعي فالرياضة في أمريكا مثال مذهل على مدى التمييز ضد السود فمثلأ يشكل السود أكثر من 70% من اللاعبين في دوري كرة لسلة للمحترفين "أن بي أي" فيما يملك رجل أسود واحد فقط فريقا من الثلاثين فريقا الذين يشكلون الدوري في حين انه لا يملك أي أسود أحد نوادي كرة القدم الأمريكية الإثنان والثلاثين والتي يشكل السود نحو70% من لاعبيه أيضا. ويمتد هذا التمييز إلى المجال الإقتصادي حيث وأنه حسب مقالة صادرة عن جريدة "وول ستريت جورنل" في العام الماضي فإنه وبالرغم من زيادة تمثيل الأقليات العرقية في مناصب صنع القرار في الشركات الخمسمائة الأكبر في أمريكا في العقد الماضي إلا أن تمثيلهم ما زال يبلغ نحو 16% من مقاعد مجالس الإدارة في هذه الشركات، في حين يبلغ تمثيلهم في المجتمع نحو40% من السكان حسب مكتب التعداد الأمريكي (نقلا من بي بي سي). مما لا شك فيه أن هذا النمط من التمييز يمتد لعلاقة الدولة برعاياها حيث يشكل الأمريكييون من أصول أفريقية 23.4% من القتلى على يد الشرطة الأمريكية في حين يشكلون 13.4% من السكان كما ويشكلون نحو 30% من القابعين في السجون الأمريكية (نفس المصدر).

من السهل أن يزعم البعض أن العنصرية يمكن أن تزول بإزالة العنصريين، إلا أن الحقيقة هي أن النظام عنصري بنيويا، أي اننا جميعا نعيش تحت تأثيره ولا نستطيع تغيره بشكل فردي. ومن ناحية أخرى فإن العنصرية كثيرا ما تتواجد داخل البشر بشكل ضمني وغير واعٍ كما أشارت دراسة اختبار اللارتباط الضمني الصادرة عن جامعتي ييل وواشنجتن في العام 1998 والكثير من الدراسات التي تلتها، والتي لن أخوض فيها لعدم تخصصي في علم النفس أو العنصرية.

الحقيقة هي من وجهة نظري أن العنصرية في أمريكا أعقد مما تبدو للوهلة الأولى، والحقيقة الأخرى هي أن العرق هو أحد الروابط المجتمعية القوية داخل أقليات أمريكا الأمر الذي دفع عشرات الآلاف للتظاهر من أجل شخص لا يعرفه معظمهم، ومن الحقائق أيضا أن وجود العنصرية بشكل غير واعٍ لا يفرض علينا التصرف بشكل عنصري كما لا يبرر الغضب العنف.


والحقيقة المغضبة أن الفلسطينيين لم يتعلموا من تجربة الأمريكيين بالشكل الأمثل والكافي، ففي كثير من الحالات وعندما يتعرض فلسطيني لمعاملة عنصرية لا يسعى الفلسطينيون لنصرته، بل إن الكثير من أحاسيسنا تجاه بعضنا في هذه الحالات تتسم بالشفقة. وبالرغم من أن الشفقة قد تكون مبررة في مثل هذه الحالات إلا أن المثال الأمريكي الذي يكرر نفسه أمامنا الآن يحثنا على إعادة تقييم علاقاتنا وإنتمائنا لبعضنا.

أن "الظلم في أي مكان هو خطر على العدل في كل مكان" (مارتن لوثر كنغ)، أنه من واجبنا الإنساني أن نقف مع العدالة لإخوتنا فلسطينيين كانوا أو عدا ذلك.

أضف تعليقاً المزيد

الاكثر قراءة المزيد

الاكثر تعليقاً المزيد