كتب – رومل شحرور السويطي * بينما ينشغل الاعلام بجميع أنواعه وتوجهاته، بالكتابة والحديث عن كبار المسؤولين والحزبيين ورجال الأعمال والفنانين والمثقفين والشخصيات الاعتبارية وتمجيد أدوارهم وتاريخهم في "بناء الوطن"، يكون هناك الكثير من الجنود المجهولين الذين قدموا لوطنهم وشعبهم في بعض الحالات، ربما أكثر "كَمّا ونوعا" من بعض أو حتى أغلب الشخصيات التي يتم الكتابة عنها، ودون أن ينتظروا أي مقابل، ومن بين هؤلاء الحاج حمدي قنديل "ابو محمود" 67 عاما من سكان البلدة القديمة بنابلس، والذي يعمل على عربة لنقل بضائع المتسوقين منذ العام 2000 .
دولة الاحتلال على حقيقتها
"الحياة الحديدة" التقت الحاج قنديل وهو أب لثلاثة أبناء وثلاث بنات، من بينهم ابن أصيب برصاص الاحتلال بعد اجتياح نابلس 2002 ببضعة أسابيع، وسألته عن ذكرياته مع ذلك الاجتياح، وقال بأن الإجرام الاسرائيلي تجلى بأبشع صوره في ذلك الاجتياح وبدت دولة الاحتلال على حقيقتها بدون رحمة ولا أي شكل من أشكال الانسانية. ويستذكر بعض تلك الذكريات بقوله انه لن ينسى في احدى ليالي الاجتياح، قيام قوات الاحتلال باحتجاز حوالي 60 مواطنا ومواطنة من سكان منطقة شارع النصر دون تمييز بين صغير وكبير، وتجميعهم في مكان ضيق لأكثر من 48 ساعة دون تلبية احتياجات أي شخص فيهم، وسط حالة من الذعر والبكاء خاصة بين النساء والأطفال.
ذكرياته مع الشهداء
وكانت ذكرياته مع الشهداء والجرحى قاسية ومحزنة، وهو يرى أحد جنود أو ضباط الأمن الوطني الفلسطيني ملقى شهيدا في أحد أزقة البلدة القديمة بعد اصابته برصاصة قناص احتلالي أو شظية من صاروخ طائرة، ويشعر بألم حين يبدأ بحمل الجثمان بحرص شديد ويضعه على لوح فوق العربة على أمل أن يكون لا يزال فيه رمق من حياة، وينقله سريعا الى مسجد البيك حيث المستشفى الميداني، وبحسب ما يذكر قنديل فقد قام بنقل خمسة شهداء من مواقع مختلفة في البلدة القديمة، كان من بينهم الشهيد الرائد ابراهيم عفانة الذي استشهد بعد استهداف موقعه بصاروخ من احدى طائرات الاحتلال، أما فيما يتعلق بالجرحى الذين قام الحاج قنديل بنقلهم الى المستشفى الميداني فقد كانوا بالعشرات. ولم تقتصر مواقف قنديل في اخلاء الشهداء والحرجى، بل تعدت ذلك الى مساعدة أرباب العائلات العاجزين عن توفير بعض احتياجاتهم الصحية والغذائية. وكان يعرض حياته للخطر في سبيل توفير بضعة أرغفة من الخبز أو حليب الأطفال أو بعض أنواع الأدوية، ولم يتردد لحظة واحدة بهذا "العمل الانساني والوطني"، بحسب تعبير الحاج قنديل.
تلبية احتياجات أرباب العائلات
وحول مكانة العربة التي يعمل عليها بالنسبة له، يقول قنديل أنه عمل في بداية شبابه بأحد الأفران، وبعد عدة سنوات عمل بفرن خاص به، ثم عاملا في مجال البناء حتى سنة 2000 ، حيث قام بشراء العربة التي لا يزال يملكها حتى الآن بمبلغ مئة دينار، ليعمل عليها في مجال نقل احتياجات المواطنين. وقال بأن العربة بالنسبة اليه عزيزة جدا، لافتا الى انه رفض بيعها اكثر من مرة، معللا ذلك، بأنه يشعر اذا ما باعها، فإنه يتخلى عن ذكرياته مع الشهداء والجرحى الذين نقلهم عليها سنة 2002.
ويقول الأسير المحرر والجريح والضابط المتقاعد عمر محمد عفانة ان من لا يعرف قنديل جيدا يمر عنه مرور الكرام ولا يُلقي له أي اهتمام. مؤكدا انه كان أحد الشهود على جرائم جيش الاحتلال في اجتياح نابلس نيسان 2002.
العربة .. صاحبة الفضل
واعتبر عفانة الذي استشهد شقيقه "الرائد ابراهيم عفانة" وكان برتبة مقدم في قوات الأمن الوطني، فيما أصيب هو شخصيا وكان برتبة نقيب في قوات ال17، بجراح بالغة في اجتياح نابلس 2002، اعتبر العربة التي يجرها الحاج قنديل بين أزقة البلدة القديمة جزءا من تاريخ نابلس، حيث كانت وسيلة نقل لنقل الشهداء والجرحى من مواقع الاشتباك الى المستشفى الميداني في مسجد البيك في البلدة القديمة. ويصف عفانة، عربة قنديل بصاحبة الفضل في اسعاف بعض الجرحى حيث كان يضع لوحا خشبيا طويل على العربة، ويثبت الجريح عليها وينطلق مسرعا الى المستشفى الميداني، وكذلك الشهداء الذين كان يعمل على اخلائهم من مواقع القصف، الى ساحة مسجد البيك، وكان من ضمنهم شقيقه الشهيد ابراهيم. وكان أيضا يحاول مساعدة السكان في تأمين احتياجاتهم اليومية بما توفر من مواد تموين، مؤكدا أن عربة قنديل مُشبعة بدماء الشهداء ولها في نفس كل من عانى ذلك الاجتياح مكانة خاصة وذكريات قاسية مؤلمة.
