فسحة للرأي

ظلال الحرب الثقيلة .. مشاهد تغزو بقسوتها نفوس أطفالنا

يافا سيف |
ظلال الحرب الثقيلة .. مشاهد تغزو بقسوتها نفوس أطفالنا

 كتبت - يافا سيف * في كل لحظة تمضي، تتوالى الأخبار والمشاهد القاسية، معلنةً عن مأساة جديدة تلتهم الأرواح بلا رحمة، صور مروعة تعرض لنا حجم الدمار، حيث الدماء والأشلاء تغطي ملامح البراءة والشيخوخة على حد سواء، لا تتوقف الصور البشعة عن اقتحام وجداننا، فكل مشهد دامٍ يعقبه آخر أشد قسوة.

وسط هذا الواقع المؤلم الذي نعايشه كبالغين على تراب فلسطين، حيث الحياة تدور في فلك الأخبار المستمرة، وشاشات التلفاز لا تعرف الصمت، وألسنتنا لا تتوقف عن نسج التحليلات والتعليقات، ودموعنا لا تجف، هل توقفنا للحظة لنتساءل: كيف يعيش أطفالنا هذا الواقع؟ وكيف تؤثر فيهم هذه الشاشات التي لا تهدأ، وهذه الأحاديث التي لا تنقطع؟ هل فكرنا بصحتهم النفسية والجسدية والعقلية؟ وبواجبنا تجاههم؟ ربما هذه الأمور لم ترد على بال الكثيرين منا!!
"أصبحت تزوره الكوابيس ليلا، وأحيانا يبلل فراشه، وشهيته على الأكل لم تعد كما كانت" هكذا قالت عبير أم للطفل محمد، وهو بعمر خمسة سنوات، يتابع محمد الأخبار ليل نهار مع عائلته على التلفاز، ويستمع لكل ما يدور من حديث عن الاحتلال وجرائمه داخل البيت، تقول عبير :"لا أدري كيف لم أنتبه أنا أو والده الى خطورة هذا الامر على ابني، كنا مأخوذين بالأحداث غير مدركين لاحتياجات طفلنا، وخطورة ما نقوم به عليه".
 
أما مها فهي أم لطفلين،  وهما شادي بعمر العاشرة،  وماسة بعمر الثانية عشر، تقول :"تأثر ابني وابنتي بالأحداث كثيرا، أراهم يبكون عند مشاهدتهم للأخبار، يسألونني هل سيحصل لنا هذا أيضا؟ واذا متنا نحن أو متم أنتم كيف سيعيش كل منا بلا الاخر؟".
هذه الأسئلة جزء من أسئلة وأفكار كثيرة خطرت على بال هذين الطفلين، وهذا أمر طبيعي اذا كنا نضع أطفالنا تحت كل هذه الضغوط غير مراعين لحالتهم النفسية، وما سينتج عن ذلك من مشكلات واضطرابات نحن بغنى عنها.
بصوت قلق تكمل مها في حديثها :"طفلي شادي أصبح يقضم أظافره، ولم يكن يفعل هذا من قبل، وهذا الأمر يزعجني جدا، أما ماسة فتأتيها كوابيس وأراها أحيانا تنتف شعرها، وأيضا هذه العادة لم تكن لديها من قبل، ولا أدري ما أفعل؟".
 
عبير ومها حالتين تمثلان وضع معظم أمهات فلسطين وأبنائهم خلال هذه الأيام، لذا من الضروري الحديث عن الأضرار النفسية التي تقع على أطفالنا في مراحل نموهم المختلفة، حال مارسنا حياتنا كآباء متسمرين وراء شاشات الهاتف والتلفاز لمشاهدة الاخبار، غير ابهين بما يسمعونه أو يشاهدونه، ومن أبرزها شعور الطفل بالقلق والخوف من أن يحدث شيء مماثل له أو لعائلته، وما قد ينتج عن هذا الخوف والقلق من مشكلات عديدة مثل التبول اللاإرادي، وقضم الاظافر، وغيرها.
وقد يصاب الطفل باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) ، وقد يلجأ الى تبني السلوكيات العنيفة التي يراها، مما يؤدي إلى مشاكل في التفاعل مع الآخرين، ولا نستطيع اغفال امكانية حدوث مشاكل النمو لديهم أيضا، لأن التعرض لمثل هذه المشاهد قد يسبب اضطرابات في النوم، مثل الأرق أو الاستيقاظ المتكرر.
 
كما قد يعاني بعض الاطفال من تغييرات في الشهية سواء بالزيادة أو النقصان، وتمتد هذه الاثار لتشمل مشكلات في التركيز والتعلم نتيجة للتوتر والقلق، ولا تستغرب أن يمارس بعضهم الانسحاب الاجتماعي والعزلة عن الأصدقاء والأنشطة الاجتماعية، وأن يصبح مهووسا بما يشاهد ويفكر به باستمرار دون توقف.
كما وأننا ككبار نشعر أحيانا بالعجز واليأس والاحباط  كنتيجة لما نراه، فان هذه المشاعر أيضا تنتقل لأطفالنا سواء عن طريقنا أو مباشرة مما يشاهدونه ويتابعونه معنا، خاصة اذا كان الطفل واعيا ليدرك عدم قدرته على فعل شيء لتغيير ما يحدث على الأرض، وعدم امتلاكه لأي قوة ليدافع بها عمن يتعرضون للإبادة، فهذا سيكون محبطا جدا له.

واذا ما تساءلنا كيف نستطيع أن نحمي أطفالنا من أن يصابون بكل ما ذكرناه انفا؟
لا بد لنا وأن نلفت  النظر الى أنه من الضروري أن نشرح للطفل بطريقة بسيطة تناسب عمره ما نواجهه من ظروف حتى يتفهم ما يحدث، فهذا سيساعده على تقليل مستوى الخوف والقلق الذي يشعر به، ومن المفيد  توضيح الوضع له أكثر عن طريق اللعب أو الرسم أو حتى عن طريق قصة قصيرة مفهومة تناسب سنه.
 
وعلينا كمربين وأولياء أمور أن نبذل كل جهد ممكن في تقديم أنشطة تعليمية وترفيهية تثري عقول أطفالنا، وتشغل أوقاتهم بشكل بنّاء ومفيد، كما يجب علينا إيلاء اهتمام خاص بالابتعاد عن تلك المشاهد المؤلمة والصور المؤذية، لما لها من أثر سلبي على صحتهم وصحتنا النفسية نحن الكبار أيضًا، فتلك المناظر قد تثير فينا مشاعر العجز والغضب، ومن الضروري الوعي بخطورة هذه المشاعر وضرورة ضبط النفس، لتجنب تفريغ هذا الغضب بشكل غير لائق أو عنيف تجاه أطفالنا.
 
كما أن علينا تعزيز التواصل بيننا وبين أطفالنا، والاستماع لمشاعرهم ومخاوفهم، وتشجيعهم على مشاركة هذه المخاوف والمشاعر مع أفراد العائلة، ما يزرع في قلوبهم الطمأنينة أكثر، ويشجعهم على العمل بشكل جماعي مع أفراد الأسرة، ومن الضروري أن يكون الحديث معهم يحمل التفاؤل والأمل، فنتحدث معهم عن مستقبل أفضل ونشجعهم على البقاء أقوياء ومتفائلين، ومن المهم أن نذكر أطفالنا دائما أننا عائلة نحمي بعضنا البعض، وسنوفر لهم الحماية والأمان دائما قدر استطاعتنا.
 
 وأما اذا كنتم كعائلة تعيشون في منطقة خطرة من الضروري توعية الأطفال بالمخاطر التي تحيطهم لكن بدون ترويعهم، وبدون مبالغة وتهويل، ومن الضروري تحذريهم من الأماكن أو السلوكيات التي قد تعرضهم للخطر، وتعليمهم كيفية طلب المساعدة في حال الحاجة اليها، مما سيشعرهم بالثقة والتمكين  أكثر.

لكن ماذا اذا تعرض اطفالنا بالفعل لمشكلات أو اضطرابات بسبب مشاهد الحروب هذه؟؟
فالتعامل الأمثل يكون بتقديم الدعم العاطفي المتمثل بالتواصل والحديث مع الأطفال بطريقة تناسب أعمارهم لتوضيح ما يحدث بطريقة لا تثير الخوف والقلق، وبث الطمأنينة في نفوسهم، وإظهار التعاطف، وفهم مشاعرهم والاستماع لها، وتشجيعهم بالتعبير عنها بطرق صحية، وتقديم الدعم والتأكيد على توفير الأمان لهم.
 
وحتى نتجنب تفاقم الوضع لديهم علينا أيضا حمايتهم من مشاهدة المحتويات المزعجة والمؤلمة على التلفاز والانترنت، ومراقبة استخدامهم لوسائل الاعلام، وأن نشرح لهم أهمية تجنب هذا المحتوى، ولعل من الامور المهم مراعاتها هو توفير الروتين اليومي المنظم الذي يشعرهم بالاستقرار والأمان، وتشجيعهم على القيام بالأنشطة الهادئة والمريحة خاصة قبل النوم.
وكما نحتاج نحن الكبار الى ممارسة تمارين الاسترخاء، سيكون هذا مفيدا جدا لأطفالنا أيضا في مثل هذه الظروف، فنعلمهم كيف نقوم بتمارين الاسترخاء والتنفس العميق، ونشجعهم بالتعبير عن مشاعرهم بالرسم والتلوين، ونزودهم بالقصص المناسبة لأعمارهم، والتي من شأنها أن تساعدهم على الابتعاد ولو قليلا عن الواقع المرير.
 
وللعلاقات الاجتماعية اثرا هاما ايضا في تحسين الحالة النفسية للأطفال، كقضاء وقت مع الاصدقاء والعائلة في بيئة داعمة، وممارسة الرياضة والأنشطة الاجتماعية، مما يكون له الاثر في تحسين الحالة المزاجية لهم، وهذا بالطبع ما أمكن، وعلينا الاهتمام بمحاولة تزويد الاطفال بالغذاء الصحي المناسب، وترغبيهم به، وأن نتأكد من حصولهم على النوم الكافي والهادئ.
 
لكن في حال وجود أعراض اكثر صعوبة وشدة يتعرض لها الطفل فمن الضروري عدم التردد في البحث عن منظمات إغاثية أو مؤسسات محلية قريبة تقدم المساعدة للأطفال في مناطق النزاع.
أخيرا فان التعامل مع الأطفال في حالات الحرب أو التعرض للإبادة، يتطلب صبرًا وحنانًا، ويجب أن نكون قادرين على التكيف مع احتياجاتهم المتغيرة، لما له من أثر على صحتهم النفسية والجسدية، املين السلامة لكل الاطفال.

* كاتبة فلسطينية/ ماجستير علم نفس

أضف تعليقاً المزيد

الاكثر قراءة المزيد

الاكثر تعليقاً المزيد