فسحة للرأي

عن انطلاقة الانتفاضة و"حماس"

صلاح حميدة |
عن انطلاقة الانتفاضة و"حماس"

انطلقت "انتفاضة الحجارة" عام 1987م بأدوات شعبية بسيطة، إلا أنها كانت الثورة التي حطمت جدار الرعب من الاحتلال، فقد عاش الشعب الفلسطيني قبلها حالة من الرعب من (اليهود) وكان مجرد ذكر أن جيبا لجيش الاحتلال أو لما يطلق عليه حرس الحدود (شمارهجفول) موجود في منطقة ما يثير الرعب بين الناس، وكانت المرأة إذا أرادت تخويف ابنها تقول له: (نادوله اليهود).

كل هذا كان من تبعات صدمة حرب الأيام الستة عام 1967م، ولم يكن بمخيلة أحد، سوى بعض المغامرين، تحدي الاحتلال وخوض تجربة مقاومته، نظر الناس إلى هؤلاء (المغامرين) بفخر ولكن كان خوفهم يدفعهم الى منع أبناءهم من أي نشاط مقاوم.

كتب - صلاح حميدة

"طلق" الشعب الفلسطيني الخوف من الاحتلال بإعلانه التمرد عليه عبر انتفاضة الحجارة، وبأبسط الأدوات اختار مقاومة الاحتلال، وكان اختيار الحجارة فكرة بسيطة وصادمة للعالم وللاحتلال في نفس الوقت، فقد صدم (داود) الفلسطيني العالم من قدرته على تحطيم هيبة (جالوت) الذي قهر كل الجيوش العربية في ستة أيام، وفي نفس الوقت شعر الاحتلال المغرور بنصره عام 1967م بأن مقاتلا من نوع جديد يواجه مدفعه بمقلاع وحجر؛ يقاتله بجرأة وشجاعة لم يعهدها من قبل من جيل ظن أنه تصهين وذاب وانتهى.
كانت انتفاضة الحجارة ثورة على واقع الاحتلال وعلى كل ما ارتبط به من ثقافة الخوف والقبول بالأمر الواقع، وكان أشهر مثلين شعبيين يسمعهما المتحمس للمقاومة وقتها:
(الكف ما بواجه مخرز) و (الحيطان لها اذنين).
وكان من أهم مميزات هذه الانتفاضة أنها كانت ثورة على الاحتلال وعلى كل ثقافة مرحلة الستينيات والسبعينيات، وكان واضحا أنها مرحلة مخاض شديد وستلد شيئا جديدا، في تلك الظروف كان هناك من التقط اللحظة التاريخية وقرر وضع بصمته واستئناف العمل الثوري الذي بدأ عام 1948م وانتهى في معسكرات الشيوخ في الستينيات، كانت جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينية على موعد مع استئناف ما أطلقه حسن البنا عام 1948م، وكان العالم على موعد مع ولادة حركة "حماس" الجناح المقاتل للجماعة في فلسطين، ومن هنا اكتسبت حركة "حماس" أهمية انطلاقتها في ظرف تاريخي أعلن فيه الشعب الفلسطيني الطلاق مع ثقافة الخوف ومع ثقافة العداء الناصري للإخوان المسلمين؛ وصولا إلى مرحلة بلغ فيها الإخوان إلى ذروة التأييد الشعبي لهم.
ربما كان الاسم الذي سيطلق على المولود الجديد لجماعة الإخوان الفلسطينية عشية 14/12/1987م أصعب من اتخاذ القرار بتأسيسها، فللإسم دلالات على طبيعة المسار وعمق الممارسة، وبالرغم من أن غالبية الحركات الفلسطينية قرنت تسميتها بالتحرير؛ إلا أن اسم المولود الإخواني اقترن ب (المقاومة) وتقديري أن هذه التسمية اقترنت بالرؤية التي حكمت المسار والممارسة والمقدرة، وعكس هذا إدراك الجماعة عدم قدرتها على مهمة تحرير فلسطين لوحدها وان هذا الامر يحتاج الى جهد جماعي عربي وإسلامي كبير، يضاف إليه دور أحرار العالم.
ولكن ما استجد من تحرير ارض قطاع غزة، وما يتعلق بانسداد الأفق السياسي، وعدم قدرة القوى السياسية الفلسطينية على الخروج من عنق الزجاجة وتجاوز مأزق اتفاقية أوسلو بالاضافة الى إدارة الحركة لقطاع غزة، هذا كله وضع الحركة أمام تحد جديد في الرؤية والممارسة، وربما يكون هذا من القضايا الأكثر تعقيدا التي ستواجه القيادة الجديدة التي ستقود الحركة في المرحلة المقبلة.
سعت حركة "حماس" إلى وضع بصمتها الخاصة في كل مرحلة من مراحل انخراطها في العمل الثوري الفلسطيني، وكانت خلفيتها الفكرية واضحة في تلك البصمة، فقد كان برنامجها النضالي الشهري في انتفاضة الحجارة يتضمن تصعيد الفعاليات في ذكرى معارك إسلامية فاصلة؛ مثل غزوة بدر وفتح مكة وفي ذكرى إحراق المسجد الأقصى، وبسبب شتم اسحق شامير للرسول عليه الصلاة والسلام، بل تطور ذلك إلى تسمية المعارك الكبرى التي خاضتها الحركة مع الاحتلال بعناوين قرآنية.
بالرغم من أن كل التنظيمات الفلسطينية وضعت صوب أعينها تحرير الأسرى من سجون الاحتلال وتبييض السجون، إلا أن اللافت في سلوك حركة "حماس" أنها قامت بعمليات أسر لجنود إسرائيليين منذ السنة الأولى للتأسيس(إيلان سعدون وافي سسبورتاس) واستمرت في تسجيل أكبر عدد من محاولات الأسر التي توجت بعملية تبادل للأسرى مقابل الجندي جلعاد شاليط، ولا زالت الحركة تعلن عن وجود أسرى من جنود الاحتلال لديها وتؤكد على أنها لن ترتاح إلا بتحرير آخر أسير في سجون الاحتلال.
وضع إخوان فلسطين _بدعم من جماعة الاخوان_ كل ثقلهم المادي والاعلامي في مواجهة الاحتلال، وزاد هذا من الالتفاف الجماهيري حولهم، فالشعب الفلسطيني يحمي ظهر ويلتف حول كل من يحمل قضيته العادلة ويقاتل ويضحي من أجلها، هذا الأمر زاد من أعداد المنتظمين في صفوف الحركة بشكل فاق قدرة الرعيل الأول من الإخوان على استيعابه، وفطن قادة الحركة في السجون إلى مسألة هامة تتعلق بعدم إمكانية تحويل كل عنصر في الحركة إلى عضو في جماعة الإخوان، فظهرت لأول مرة معادلة طريفة:
(كل إخواني حمساوي؛ ولكن ليس كل حمساوي إخواني).
كانت تجربة الحركة الثورية تجربة تراكمية، فبالرغم من أنها كانت تدرس عناصرها عن جهاد الإخوان عام 1948م وعن تجربة معسكرات الشيوخ في الستينات والسبعينات، إلا أن تجربة خوض انتفاضة الحجارة كان لها رونقها الخاص في تاريخ الحركة، ولذلك نستطيع القول؛ إن الاستفادة من تجارب التنظيمات الأخرى والتعلم بالتجربة وأستقدام الخبرات من الخارج والحرص على التعلم والتطوير واستخلاص العبر، كل هذا قاد الحركة إلى تقديم نموذجها الخاص في الواقع النضالي الفلسطيني.
أولت الحركة اهتماما استثنائيا بالعمل الخيري والتربوي والدعوي وغيرها من النشاطات الاجتماعية، الا أن تجريد الحركة من كل أدوات التفاعل مع المجتمع ومن كل أدوات الفعل السياسي في الضفة الغربية لم يعد ذا تأثير يذكر على حجم التفاعل الشعبي مع الأطروحات السياسية والفكرية لها، بل تحول خطابها إلى ثقافة شعبية ، واغانيها الجهادية إلى نشيد للجماهير، وهذا نابع من تفاعل الحركة وتبنيها لتطلعات الشعب الفلسطيني بالعودة والاستقلال على أرضه كاملة وقتالهم بشراسة في مواجهة جيش الاحتلال؛ فقد رفضت بشكل قاطع لشروط الرباعية الدولية التي مضمونها تصفية لتلك الحقوق، بالإضافة إلى صمودها الاستثنائي_بمعية الشعب الفلسطيني_ بوجه أطول وابشع حصار في التاريخ.
كانت فصائل منظمة التحرير تدعو الحركة للانضمام إلى المنظمة في سنوات النشأة الأولى، ولكن لم يتمخض الحوار إلى نتائج تذكر، ولا زال البرنامج السياسي لمنظمة التحرير يقف عائقا أمام انضمامها لهذه المنظمة، وحاولت الحركة الدخول إلى النظام السياسي الفلسطيني من باب الانتخابات البلدية والتشريعية قبل عقد من الزمن تقريبا ولكن الواقع يقول: إن هذا الأمر متعذر في ظل استمرار الحركة بتبني طرحها السياسي الرافض لشروط الرباعية، فموافقة الحركة على تلك الشروط سيفقدها مبرر وجودها وسيؤدي الى انفضاض الشعب الفلسطيني من حولها، ولذلك فإن قيادة الحركة، التي ستنتخب قريبا، ستكون أمام تحد يتعلق باتخاذ قرار في هذا الموضوع، حيث يلحظ المتابعون إن موضوع دخولها للنظام السياسي الرسمي الفلسطيني يبدو متعذرا ، وربما تبقي الحركة في مفردات خطابها رغبتها بالانضمام إليه، ولكن مسألة الشرعية نالتها الحركة بتبنيها للحالة الثورية الفلسطينية وانصهارها في العمل الكفاحي العنيف، يضاف اليه الشرعية التي نالتها في الانتخابات، وهنا يبرز التناقض الجوهري بين الشرعية الشعبية _ الثورية وبين الموافقة على شروط الرباعية التي تتضمن تصفية للحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني ، هنا تحديدا تبرز مسألة النشأة (توأم حماس والانتفاضة) ودلالات التسمية (حركة مقاومة) فعلى هذا المفترق تقف حركة المقاومة الاسلامية "حماس" أمام حقيقة الانسجام مع منطلقاتها، فالمتابع يلاحظ بشكل جلي أن الحركة تقوم بدورها المرتبط بفكرها ونشأتها، ففي ظل هذا الواقع العالمي والإقليمي يكفي الحركة أن تمنع تصفية القضية الفلسطينية وأن تبقي جذوة رفض الاحتلال مشتعلة، وهذا حمل كبير دفعت ولا زالت تدفع ثمنه.
 

أضف تعليقاً المزيد

الاكثر قراءة المزيد

الاكثر تعليقاً المزيد