فسحة للرأي

الشهيدُ باسل الأعرج.. فكرةٌ لا تموت

رشا احمد خفش |
الشهيدُ باسل الأعرج.. فكرةٌ لا تموت

 كتبت - رشا احمد خفش:  كوفيةٌ, وكتبٌ, ورصاص, ووصيةٌ مقتضبةٌ كتبت على عجلٍ, ودماءٌ تناثرت في ثنايا المكان تشي بحجم تلك المعركة وذلك الاشتباك, وحفرٌ في السقف والجدران آثار الرصاص والقنابل التي أطلقت بشراسة لتغتال لا شهيداَ عادياَ, بل شهيداَ استثنائياَ ونوعياَ, شهيداَ (فكرة) ومفكراَ ومنظراَ لا يستهان به, شهيداَ من ذلك النوع المرعب للاحتلال لا بأسلحته وما يملك من عتاد, بل بما لديه من ثقافة, وفكر, ونظريات واستراتيجيات مقاومة, وأبحاث في تاريخ وجغرافية وثورات ومقاومة فلسطين, فدوماَ كانت الثقافة والعقل والمعرفة أكثر ما يؤجج مخاوف القوى الاستعمارية المتسلطة لتبقى قوتها وتدوم سيادتها.

أشياؤه البسيطة التي خلفها في مكان استشهاده ليست بتلك البساطة هي عميقة بعمق فكره وروحه المقاومة, ترك لنا في بركة دماء زكية كوفيةَ؛ هي رمز الوطن والوطنية, هذا الوطن الذي يعيش فينا ونعيش فيه ولفرط ما نحبه نلفه حول أعناقنا حتى ونحن نستشهد, لأننا نغادره فخورين, مقاومين, ممتلئين حرية وعزة وإباء, لأننا ما فرطنا فيه وهبناه كل ما نملك حتى أرواحنا.

وكتبٌ؛ تلك الأسلحة الخفية المرعبة, التي نقاوم  لا الاحتلال وحسب بل نقاوم بها كل جهلٍ وتبعية وتخلف, نقاوم بها الفقر والرجعية, نقاوم بها تشتُتنا وتفرُقنا وانقساماتنا, الكتب تعني ذلك الوعي الذي يرقى بنا فكرياَ ومعرفياَ, لنكون أقوى وأصلب وأجدر بالبقاء, كُتب باسل التي أروت عقله فكراً أرتوت من دمائه الزكية, فسال دم باسل "العربي" الذي تأثر ب "فكر غرامشكي" بين زنازين سجن "المسكوبية", لترقى روحه الى منزّل "القرآن الكريم" جلّ وعلا, فاضت روحه واستشهد لكن كما دوما (الفكرة لا تموت).

ورصاص؛ رصاصات فرغت في وجه المحتل, أطلقها باسل بكل بسالة وشجاعة دفاعاَ عن نفسه ووطنه, فكما قال دوماً, "بدك تكون مثقف بدك تكون مشتبك, ما بدك تشتبك لا فيك ولا في ثقافتك" كنت نعم المثقف ونعم المشتبك يا باسل.

ووصيتك المختصرة التي كتبتها على عجالة عندما أحسست أن النهاية اقتربت, كانت نهاية جسد غربلته رصاصات الغدر, لكنها بالتأكيد لم ولن تكون نهاية مشوار مقاومة ومشروع تحرر, قلت لنا في حروفك الأخيرة:
"تحية العروبة والوطن والتحرير
أما بعد،
إن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أني قد مِتُّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء.
لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة، وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد، وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله".
لا لم يكن ولن يكون أفصح مما فعلت يا باسل.

باسل الذي كتب يوما "عش نيصاً وقاتل كالبرغوث" لم يكن ينظّر فقط بل كان يكتب خطة تحرر واستراتيجية مقاومة واشتباك مع الواقع الاحتلالي, فكما قال باسل في مقاله "يقول ماوتسي تونغ “عندما يتقدم العدو فاننا نتراجع، وعندما يخيم نناوش، وعندما يتعب نهاجم، وعندما يتراجع نطارده”، ويقوم تنظير ماوتسي تونغ لحرب العصابات على ما يشبه “حرب البرغوث”.
حل ماوتسي تونغ معضلة سؤال ” كيف تستطيع أمة غير صناعية ان تنتصر على أمة صناعية “حيث يرى انجلز أن الامم القادرة على توفير رأس مال أكثر هي قادرة على هزيمة أعدائها، بمعنى أن القوة الاقتصادية هي التي تستطيع أن تحسم المعارك لانها قادرة على توفير رأس المال اللازم لصنع السلاح.", كان يدعو باسل باستمرار بأن لا تقف الفكرة عند حد التنظير بل تنطلق كفعل وتطبيق لتكون أعمق وأكثرجدوى.
ويضيف باسل في ذات المقال "يشرح روبرت تابر آلمر على هذا النحو “ومن الناحية العملية فإن الكلب (المضيف أو المعيل) لا يموت بسبب فقر الدم بل لأنه يضعف باستمرار بسبب انتشاره اذا استعملنا المصطلحات العسكرية، وبسبب عدم شعبيته إذا استعملنا المصطلحات السياسية، وبسبب زيادة الكلفة اذا استعملنا المصطلحات الاقتصادية، وفي النهاية فإنه لا يعود قادراً على الدفاع عن نفسه، وفي هذه الفترة يكون البرغوث قد تكاثر وتحول إلى وباء بفضل مجموعة طويلة من انتصارات صغيرة استطاع فيها كل واحد أن يمتص قطرة من الدم“. "
باسل الشهيد ( المُشتبك المثقف) الذي انتظرنا عبق جثمانه ونكث الاحتلال بوعد تسليم جثمانه كعادته في نقض العهود, لا يمكننا أن نكتب عنه بطريقة عابرة أو مقتتضبة, أو أن يُمحى من الذاكرة , فهنا في فلسطين لكل شهيد حكاية وطن ووجع ومشروع تحرر, وفي كل مدينة وقرية ومخيم وزقاق وشارع وبيت هناك قلوب تأمل بالنصر والتحرر.
 

أضف تعليقاً المزيد

الاكثر قراءة المزيد

الاكثر تعليقاً المزيد